نيكولا تيسلا | مخترع القرن العشرين

 

مقدمة

تخيّل معي أن يأتيك مدير الشركة التي تعمل فيها، ويطلب منك أن تنجز عملاً ما. فيتحدّاك ويقول لك: "إذا تمكّنت من إنجاز هذا العمل، سأعطيك مكافأة قدرها 50 ألف دولار". طبعاً ما سيحصل هو أنّك ستتحمّس، وستعمل بجد ليلاً ونهاراً إلى أن تنجز ذلك العمل وتكمله. الآن كيف ستشعر لو فعلاً قمت بإكمال التحدي، وقدّمته للمدير، وطالبت بمكافأتك، ثم قال لك: "لقد كنت أمزح معك، لن أعطيك المكافأة"؟ لن أستغرب إن قمت بارتكاب جريمة بحق هذا المدير.

هذه القصة قصيرة جدًّا، وهي قصة حقيقيّة. وقد حصلت هذه القصّة بين اثنين من أشهر العلماء، هما نيكولا تيسلا وتوماس إديسون.




طفولته وبداية حياته

نيكولا تيسلا هو فيزيائي مخترع ومهندس كهربائي من كرواتيا. وُلد في يوليو عام 1856. بعض من الحكايات تقول بأن نيكولا وُلد في ليلة عاصفة رعديّة مرّت على قريته، والتي كانت تحت سيطرة الإمبراطوريّة النمساويّة في تلك الفترة. كانت العاصفة الرّعديّة قوية جدًّا، وكأنّها علامة من علامات شيء ما سيحدث في حياة نيكولا تيسلا. 

في عام 1861 دخل نيكولا المدرسة الابتدائية حيث درس فيها اللغة الألمانيّة والرّياضيات، وأيضاً الدين. بعد ذلك اضطرّت عائلته لجمع أمتعتها والانتقال للعيش في غوزبيتش. وهناك أنهى نيكولا الفترة الدراسية الابتدائية.

كانت اهتمامات تيسلا مختلفة تماماً عمّا كان يريد والده، والذي كان مجرّد قس في كنيسة أورثودكسية، وكان يريد من ابنه أن يضم إلى الكنيسة ويُصبح كاهناً. فقد كان نيكولا مهووساً بشيء اسمه العلوم، وبالخصوص الفيزياء والكهرباء. وقد تأثّر تيسلا كثيراً باهتمامات والدته، والتي كانت ربّة بيت، حيث كانت دائماً ما تعمل على أجهزة منزليّة صغيرة في ذلك الوقت. كان لنيكولا أربع إخوة.

حصلت مع تيسلا حادثة قلبت حياته رأساً على عقب، لدرجة أنها أثرت في قواه العقليّة. تقول بعض المراجع التاريخية أنه في عام 1863، كان أخ نيكولا الصغير ذو ال 12 عاماً راكباً على ظهر الخيل يلعب عليه. والمراجع تقول بأن نيكولا تيسلا قد قام بنغز الخيل، مما جعل الخيل يهيج ويقفز عالياً، وأدّى ذلك إلى سقوط أخيه الصغير من فوقه، وهذا السقوط تسبب في وفاته. كان نيكولا يحب أخاه لدرجة كبيرة لا توصف، لدرجة أن تلك الحادثة صارت تلاحقه في حياته كلها.


دراسته وعمله

قبل وصوله إلى المستوى الجامعي، درس تيسلا في مدرسة ريرشول كارت ستيت، التي تقع في كارلشتات، وهي مدينة في منطقة فرانكونيا السفلى في ولاية بافاريا، ألمانيا. تيسلا التحق بهذه المدرسة لفترة قصيرة قبل أن ينتقل لإكمال تعليمه في أماكن أخرى. 

بعد تخرّجه من تلك المدرسة، انتقل نيكولا إلى الجامعة التقنية في غراس بالنمسا، حيث درس الرياضيات والفيزياء. خلال فترة دراسته، كان تيسلا يعمل في عدة وظائف لتأمين نفقاته ولإعالة نفسه. وفي غراس، شاهد تيسلا آلة غريبة تدعى Gramme Dynamo، والتي كانت عبارة عن مولّد كهربائي اخترعته المهندسة البلجيكية زينوب غرام في عام 1871. كانت تلك المرّة الأولى التي يرى فيها تيسلا آلة كهذه في حياته كلها، فثار فضوله وقرر التعلّم أكثر عن هذه الآلة وعن كيفية عملها. كانت هذه الآلة تعمل كمولد كهربائي، حيث ينتج المولد طاقة كهربائية من الطاقة الحركيّة. ويمكن تحويل هذه الآلة إلى محرك كهربائي عند عكس اتجاه عملها، حيث ينتج المحرك الطاقة الحركيّة من الطاقة الكهربائية. هذه التجربة أثارت اهتمامه ودفعته للبحث في استغلال التيار المتناوب، وهي فكرة لم يكن أي عالم آخر قد فكر فيها في ذلك الوقت.

في عام 1881، انتقل تيسلا إلى بودابست للعمل في شركة كهرباء، حيث تم تعيينه كاختصاصي كهرباء رئيسي. أثناء ممارسته لعمله، كان نيكولا أحياناً يقوم بإصلاح وتحسين الأجهزة في الشركة، بل ويُقال إنه اخترع مضخّماً هاتفياً دون أن يحصل على براءة اختراعه، حتى أثناء عمله في مركز الكهرباء في بودابست. بدأ تيسلا في تطوير مخطط لمحرّك تحريضي، وتمكن من اختراع أول جهاز يستخدم التيار المتناوب في التاريخ.




عمله لدى توماس إديسون

طوال فترة دراسته وعمله، كان نيكولا تيسلا يسمع بأخبار توماس إديسون، وكان يسمع باختراعاته وإنجازاته. كان إديسون أكثر شخص مشهور في العالم يعمل في مجال الكهرباء. فقرر نيكولا السفر إلى الولايات المتحدة في عام 1884، وبالضبط إلى نيويورك؛ ليُقابل توماس إديسون شخصيًّا ويُقدّم طلب عمل لديه. وفعلاً تم توظيفه في شركة إديسون للأعمال الميكانيكية في مانهاتن، وعمل كمهندس كهربائي، حيث أظهر ذكاءً وحرفيّةً عالية في حل كل المشاكل التي تواجه الأجهزة الكهربائية، لدرجة أنه أصبح يعرف كل الأخطاء والثغرات الموجودة في أنظمة إديسون الكهربائية. وعلى الرغم من تأثيره وذكاءه وقيمته الكبيرة، الراتب الأسبوعي لتيسلا في الفترة التي عمل فيها تحت إدارة إديسون كان 18 دولار فقط.

في أحد الأيام، أوكل إديسون مهمة لتيسلا، وهي أن يقوم بإعادة تصميم أحد المولدات للتيار المستمر. كان الأمر سهلاً بالنسبة لنيكولا، لذلك أخبر إديسون بأنه قادر على فعل ذلك. وليس هذا فقط، بل أخبره بأنه يستطيع أن يقوم بإعادة تصميم كل المولدات الخاصة بإديسون، وجعلها تعمل بكفاءة عالية واقتصاديّة أيضاً.

كان توماس إديسون مغروراً ومتكبّراً، وكان لا يستمع إلا لصوت نفسه، ولم يكن يُلقي بالاً لأفكار الآخرين واقتراحاتهم. لم يرضَ إديسون أن يقوم أحد موظفيه بتصحيح عمله وتصحيح أفكاره وانتقادها وتطويرها، وكان يرى أنه لا يستطيع أحد أن يقوم بمجاراته في فهم الأنظمة الكهربائية. فقام توماس إديسون بالردّ على تيسلا وقال بالحرف: "سأمنحك 50 ألف دولار إن استطعت ذلك". 

قبل تيسلا هذا التحدي، وفعلاً بدأ يعمل كل يوم حتى ساعات متأخرة من الليل، ولم يكن ينام إلا قليلاً. وبعد شهور قليلة من العمل الدؤوب، تمكّن تيسلا من إنجاز المهمة، وأصبحت كل مولّدات إديسون وآليّاته اقتصاديّة وأكثر كفاءة، تماماً كما قال نيكولا. وهنا التقى تيسلا بإديسون وأخبره بما فعله، وقام بطلب مكافأته، حيث قال: "لقد فعلت ما قلت لك، أعطني ال 50 ألف دولار التي وعدتني بها". وكان رد توماس إديسون: "تيسلا، يبدو أنك لا تفهم حسّ الفكاهة الأمريكية". وعوضاً عن أن ينفّذ وعده ويكافئ تيسلا على ما فعله، أعطاه فقط علاوة أسبوعية بقيمة 10 دولارات، هذا كل ما فعله.

صبر تيسلا على الأجور المنخفضة التي كان يتلقّاها، وصبر أيضاً على سياسة توماس الاستغلاليّة، ولكن إخلافه بوعده لتيسلا وعدم إعطائه المكافأة التي استحقّها كان القشّة التي قسمت ظهر البعير. والتي دفعت تيسلا للاستقالة من الشركة، وهو غاضب ويشعر بالظلم والاستياء.



عمله مع ويستينغهاوس

بدأ نيكولا تيسلا مسيرته العلميّة الفردية بعد هذا الحدث الذي أعطاه تحفيزاً كبيراً. قام تيسلا بتأسيس مختبره الخاص. وهناك، بدأ يعمل على اختراعاته الخاصة، لتبدأ سمعته تلمع شيئاً فشيئاً. اجتهد تيسلا في مختبره، ونجح في اختراع محرك متعدد المراحل، ومولدات كهربائية تعتمد على التيار المتناوب، وأيضاً محولات كهرباء لأنظمة التيار المتناوب.

تعرّف نيكولا بعد فترة وجيزة على جورج ويستينغهاوس، المهندس ورجل الأعمال أمريكي، الذي يمتلك شركته الخاصة للكهربائيات. كان جورج يهدف إلى تزويد أمريكا بطاقة بعيدة المدى؛ ولذلك أبدى اهتماماً وإعجاباً كبيراً بنظام تيسلا للتيار المتناوب. فاشترى من تيسلا براءات الاختراع، بما فيها براءة اختراع موطور متعدد المراحل مقابل مليون دولار حسب بعض المصادر، إضافة إلى حقوق أُخرى.

بفضل أفكار تيسلا، أصبحت شركة ويستينغهاوس الكهربائية أول شركة تمتلك تكنولوجيا التيار المتناوب، حيث قامت بإضاءة المعرض العالمي الكولومبي في شيكاغو سنة 1893، معتمدةً فقط على التيارات المترددة، في عرض ضوئي مبهر أذهل الجمهور وأثبت عكس ما كان يدّعيه إديسون من أن التيار المتناوب خطير وغير قادر إلّا على التدمير. وقد بنى ويستينغهاوس، مستعيناً بأفكار تيسلا، مولّد شلالات نياغرا للطاقة الهيدروكهربائية، وأنظمة تيار متناوب في مناجم كولورادو للفضة، ليُؤكّد تيسلا تفوّق نظامه الذي سماه بنظام التيار المتناوب على نظام التيار المباشر الخاص بإديسون.

هنا نشأت مواجهة مباشرة بين نيكولا تيسلا وتوماس إديسون، كل منهما يحاول إثبات قوة وفعالية نظامه الكهربائي، لينتصر تيسلا في النهاية بنظامه المتناوب، حيث أصبح هذا النظام مُعتمداً كنظام للطاقة الكهربائية على مستوى العالم.






اختراعاته وإنجازاته

بدأ نجم تيسلا يلمع بشدّة مع بداية القرن العشرين، لدرجة أنّ شهرته أصبحت مساوية لشهرة توماس إديسون، الذي كان تيسلا في أحد الأيام مجرد موظف لديه. كانت شهرته تتزايد شيئاً فشيئاً مع كل اختراع يخترعه. فاخترع وطوّر أدوات كهربائية كثيرة، منها الرادار، الإنارة عالية التردد، الأشعة السينية ووسائل العلاج بالكهرباء. كل هذه الاختراعات كانت باعتماد التيار المتناوب والتيار عالي التردد.

طوّر تيسلا أيضاً نظاماً عالميًّا للبث الإذاعي لل الطاقة الكهربائية باستخدام أجهزة إرسال مكبّرة. كما بنى تيسلا أول محطة في النظام الكهربائي العالمي الجديدة، برج ضخم لتقوية الإرسال والذي كان في مدينة نيويورك الأمريكية. 

أيضاً من أشهر اختراعات تيسلا هو ال Magnifying Transmitter، أو جهاز الإرسال المكبر لإرسال الطاقة لا سلكيًّا. وهناك أيضاً Turbine Tesla، الذي وصلت كفاءة وقود محركه إلى 90%. وأيضاً المحرّك الحثّي، أو ال Induction Motor، وهو المحرّك الذي يُستخدم في المكانس الكهربائية وأيضاً في مجفف الشعر. وغالبية الأدوات الكهربائية مازالت تستعمل هذا المحرّك إلى يومنا هذا. وقد اخترع تيسلا أول قارب للتحكم عن بعد، وكانت له بصمة قوية في الفيزياء النووية والنظرية. 

كان نيكولا تيسلا مخترعاً سابقاً لعصره، فقد كان الكثير من العلماء والمخترعين اللاحقين يعتمدون في اختراعاتهم على أفكار تيسلا. وأيضاً كان تيسلا يخترع ويُطوّر بلا توقف، فقد قدّرت مؤسسة تيسلا أنه سُجّل أكثر من 300 براءة اختراع باسم نيكولا تيسلا، وذلك عبر كل دول العالم، ومن أشهرها ما ذكرناه من قبل. 

رغم كل هذه الإنجازات، لم يحظَ تيسلا بالتقدير الكافي في حياته، والعديد من اختراعاته وأفكاره كانت تُسرق وتُنسب إلى غيره. أشهر تلك الاختراعات هو الراديو، الذي نُسبت براءة اختراعه إلى الإيطالي غوليلمو ماركوني، رغم أن المحكمة العليا في أمريكا صادقت في عام 1943 على أحقية نيكولا تيسلا في اختراع الراديو، واعتبره الناس على أنه الأب الرّوحي له.





في سنة 1916، قررت الأكاديمية السويدية للعلوم منح كل من نيكولا تيسلا وتوماس إديسون جائزة نوبل للفيزياء مناصفة بينهما. لكن تيسلا رفض أن يتقاسم الجائزة مع إديسون، وإديسون رفض أن يتقاسم الجائزة مع تيسلا. وبسبب تنعّتهما، قررت الإدارة أن تأخذ الجائزة منهما.



نهاية حياته

آخر مؤتمر صحفي حضره نيكولا تيسلا كان سنة 1940، بعد ذلك لم يعد يظهر أبداً في الإعلام. عاش تيسلا أيامه الأخيرة في فندق يُسمّى نيويوركر، مُنكبًّا على اختراعات جديدة. لكن صحّته العقلية في تلك الأيام كانت في بداية انهيارها، وعاش تيسلا أيامه الأخيرة يُطعم الحمام في الحديقة وهو يشعر بالإحباط. كما كان شبه منعزل تماما عن المجتمع حوله. 

وعلى الرّغم من إنجازاته العظيمة في مجال الهندسة الكهربائية والاختراعات، ورغم أنه لُقّب بمخترع القرن العشرين بسبب اختراعاته التي سهّلت حياتنا، ومازالت تُسهّل حياتنا إلى الآن، إلّا أنه عاش أواخر أيّامه فقيراً وفي ضائقة ومشاكل مالية. 

توفي نيكولا تيسلا في السابع من يناير عام 1943 في نيويورك، الولايات المتحدة، عن عمر يناهز 86 عامًا. وكانت وفاته نتيجة نوبة قلبيّة. ومن آخر ما قاله تيسلا كان هذه الجمل: "إن عالم القوة محكوم بديناميكيّة الغابة، فالغربان والضباع تنتظر من يأتي بالفريسة، فلا تُتعب نفسها كثيراً، ولا تبذل طاقة، ولا تضيّع وقتاً في مطاردة الفريسة، مع ذلك فهي موجودة وتستفيد من تعب الآخرين، فهكذا هي الحياة في جانب منها".





إرسال تعليق

أحدث أقدم