مقدمة
إذا قرأنا تاريخ وكتب الفيزياء والفلك، سنجد أن هناك أكبر خمسة ألغاز أساسية لا تزال تؤرق العلماء إلى اليوم. اللغز الأول: كيف بدأ الكون؟ اللغز الثاني: ما الذي يُفسر كتلة النيترينو؟ اللغز الثالث: لماذا تهيمن المادة على عالمنا؟ اللغز الرابع: ما هي المادة المظلمة؟ واللغز الخامس: ما هي الطاقة المظلمة؟
يعتقد العلماء أن المادة العادية التي تُشكل عالمنا، من أحياء وجمادات وكواكب ونجوم وكل شيء نراه ونحس به، لا تمثل سوى حوالي 4% من جميع الأشياء الموجودة في الكون. أما ال 96% المتبقية فتتكون من المادة المظلمة والطاقة المظلمة. هذه الأخيرة يُفترض بأنها جسيمات غريبة، وشكل من أشكال الطاقة التي تُعتبر مكون من المكونات الرئيسية لما يُسمى بالقطاع المظلم. على عكس المادة العادية التي تشكل النجوم والكواكب وكل شيء يمكننا رؤيته، فإن الطاقة المظلمة لا تتفاعل مع الضوء، ولا يمكن اكتشافها إلا من خلال تأثيراتها. لم نرَ الأمطار، ولكن رأينا آثارها على الأرض الرطبة والأشجار المبللة. لم نرَ العواصف الرعدية، ولكن رأينا آثارها على الأشجار المكسورة والأسلاك الكهربائية المتضررة.
هذا الأمر جعل تفاصيل لغز الطاقة المظلمة من أكبر أسرار علم الفلك الحديث.
اكتشاف الطاقة المظلمة
في عام 2003، قام المجلس القومي للبحوث بإدراج "ما هي الطاقة المظلمة؟" باعتبارها واحدة من أكثر المشاكل العلمية إلحاحاً في العصر الحديث. حيث صُنفت الطاقة المظلمة على أنها الغموض الأكثر عمقاً في كل العلوم.
شون كارول، عالم الكونيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، يصف هذه المعضلة الكبيرة ويقول: "لدينا جرد كامل للكون، وهذا ليس له أي معنى" في إشارة منه إلى أننا بالفعل نستطيع عبر التيليسكوبات والأجهزة الكونية العملاقة رؤية الكواكب والنجوم والمجرات. لكن وفي ذات الوقت وواقع الأمر، نحن لا نرى شيئاً يُذكر.
العديد من الدول حشدت جيشاً وجيلاً كاملاً من الباحثين وعلماء الفلك، وخصصت ميزانيات بملايين الدولارات لحل هذه المعضلة العويصة.
في حوالي القرن العشرين، قام عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل برصد المجرات البعيدة، واكتشف حالة فلكية غامضة جدًّا، وهي أن المجرات في حالة تباعد مستمر. وهذا ليس كل شيء، بل اكتشف أيضاً أن المجرات كلما كانت أبعد، كلما كان ابتعادها أسرع. مما دفع العلماء إلى افتراض أن الكون في حالة توسّع. كان هذا صادماً للمجتمع العلمي وحتّى لعامة الناس، حيث أسقط الفكرة السائدة في ذلك الوقت بأن الكون كان موجوداً منذ الأزل في ثبات واستقرار. اكتشف هابل أن النسيج الكوني يتمدد على مدى مليارات السنين الضوئية، ويحمل المجرات الموجودة فيه بعيداً عن بعضها البعض، تماماً مثل حبات الزبيب في رغيف خبز.
في أواخر التسعينات، وبالضبط في عام 1998، أصبحت الأمور أكثر غرابة. حيث حاول فريقان من علماء الفلك حساب المعدل الدقيق الذي يتوسع به الكون، وذلك عن طريق قياس المستعرّات الأعظمية البعيدة، متوقعين أن يجدوا المعدل في تباطؤ. لكنهم تفاجئوا باكتشاف أن نسبة كبيرة من الكون مكوّنة من شيء غامض وغير مُكتشف بعد، يتغلب على قوى الجاذبية ويدفع النسيج الكوني بعيداً عن المركز، وسُمي ذاك الشيء بالطاقة المظلمة.
وبسبب هذا الاكتشاف الضخم، تقاسم ثلاثة من هؤلاء العلماء، وهم شول بيلماتر وآدم ريس وبراين شميت، جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2011.
جو موهر، عالم فيزياء فلكية، والمؤلف المشارك في هذه الدراسة الخطيرة لجامعة LMU، قال بالحرف: "لتفسير هذا التسارع، نحتاج إلى مصدر. ونشير الآن إلى هذا المصدر باسم الطاقة المظلمة، التي توفر نوعاً من طاقة مضادة للجاذبية؛ لتسريع عملية التوسع الكوني".
تأثير الطاقة المظلمة
هناك قوتان اثنتان تحكمان على استقرار وبقاء الكون: القوة الناتجة عن الانفجار العظيم الأول الذي أدى إلى تسارع وتمدد الكون، وقوة الجاذبية التي تسعى لجذب الكون مرة أخرى إلى نقطة البداية. إذاً، ما الذي تفعله الطاقة المظلمة؟
تخيل أنك تقوم بإعطاء دفعة أولى لطفل في أرجوحة. سيبدأ الطفل في التأرجح بشكل متسارع، إلى أن تضعف طاقة التأرجح ويبدأ بالتباطؤ حتى يتوقف تماماً. وهذا منطقي. لكن تخيل أنه بدلاً من أن تتباطأ الأرجوحة وتتوقف، أن تستمر الأرجوحة في الحركة مرة بدون أن يدفعها أي أحد. ليس هذا فقط، بل إن ذلك التأرجح يزداد بوتيرة متسارعة. هذا التأثير يشبه إلى حدٍّ كبير تأثير الطاقة المظلمة المسببة للتوسع المتسارع للكون، بعد انتهاء التوسع السريع الأولي نتيجة للانفجار الكوني الأول. فالانفجار الأولي يشبه دفعتك الأولى للطفل في الارجوحة، والطاقة المظلمة تشبه تلك القوة الغامضة التي جعلت الأرجوحة تستمر في الحركة بل وتتسارع.
من الذي دفع الأرجوحة مرة أخرى وهي تقترب من التوقف؟ السؤال نفسه يتم طرحه في علم الفلك. فإن التوسع المتسارع للكون يخبر العلماء بشكل مُشفر أن هناك شيئاً مفقوداً، أو طاقة مفقودة لا نراها. هذه الطاقة هي التي تسبب توسع الكون بشكل متسارع.
تفسيرات الطاقة المظلمة
الثابت الكوني، الذي يُعبّر عنه بالحرف اليوناني "لامبدا Λ"، يُعدّ الشكل والنمط الأكثر قبولاً للطاقة المظلمة. ويرتبط هذا الثابت بكثافة طاقة الفراغ في الفضاء. له تأثير متنافر شبيه بالمغناطيس، مما يتسبب في تسارع تمدد الكون بمرور الزمن. غالباً ما يتم ذكر المادة المظلمة والطاقة المظلمة معاً في الأبحاث والمحاضرات والمقالات العلمية. ويبدو أن الطاقة المظلمة هي قوة فريدة لا تشبه أي شيء آخر في الكون، على عكس المادة المظلمة.
من أجل وصف خصائص الطاقة المظلمة وأصولها المحتملة، طوّر العلماء تفسيرات ونظريات مختلفة. أشهرها هو الثابت الكوني الذي قدّمه آينشتاين في معادلته للنسبية العامة. حيث أشار إلى أن كثافة طاقة ثابتة تملأ الفضاء بشكل متساوٍ. ومع ذلك، فإن هناك ألغازاً في حدّ ذاتها قد تفرّعت من هذا التفسير، مثلاً: ما هي الطبيعة الدقيقة للثابت الكوني؟ ولماذا تبدو قيمته صغيرة جدًّا وفي الوقت نفسه غير صفريّة؟
وهناك تفسير آخر اسمه الجوهر، يتضمن الجوهر مجالاً ديناميكيًّا متطوّراً يتخلل الفضاء. يمكن للجوهر أن يتغير بمرور الوقت، على عكس الثابت الكوني الذي يتمتع بكثافة طاقة ثابتة. يقدم الجوهر فكرة أن مجال الطاقة المظلمة قد يكون له خصائص تتطور، مما يؤثر على معدل توسع الكون.
تعقيد الطاقة المظلمة
تخيل أنك تتجول في غرفة مظلمة، فإذا بك تلمس مخلوقاً ما من حين لآخر. ملمس هذا المخلوق غريبٌ جدًّا عليك ولم تستطع التعرف عليه؛ فبدأت تتسائل عن شكل هذا الكائن، وتحاول أن تفهم ماهية هذا الكائن وكيف يبدو. هذا المثال يصف لك مدى صعوبة فهم وقياس المادة المظلمة والطاقة المظلمة. الغرفة المظلمة بالنسبة لنا هي الكون. وبدلاً من لمس ذلك الكائن، لا يستطيع علماء الفلك سوى رؤية تأثيراته على الأجسام الأخرى. يمكن لعلماء الفلك أن يروا أن المادة المظلمة تتفاعل مع المادة المرئية عن طريق الجاذبية.
هناك أربعة قوىً أساسية للكون، وهي القوة الكبرى، القوة الصغرى، الجاذبية، والكهرومغناطيسية. والبعض افترض أن الطاقة المظلمة يمكن أن تكون هي القوة الأساسية الخامسة للكون. لكن الخصائص الدقيقة للطاقة المظلمة لا تزال لغزاً، وقد تظل كذلك لعشرات ولمئات السنين القادمة. خصوصاً وأن الطاقة المظلمة، حسب ما يقول العلماء، أتت للوجود وقامت بتشغيل نفسها بشكل عشوائي.
(حين تستمع إلى علماء الفلك والفيزياء وهم يتحدثون عن الكون، ستسمع كلمات مثل "عشوائي" و "صدفة" بشكل متكرر. هذا لأن أغلب هؤلاء العلماء ملحدون، وتكبرهم يدفعهم إلى استعمال هذه الكلمات من أجل تجنب ذكر خالق الكون، والذي ليس هناك لا صدفة ولا عشوائية معه. فهم يرفضون أن يعترفوا بوجود الإله الذي خلق الكون والذي يقوم بتسييره كما يشاء، ويتعصبون لرأيهم الباطل وينسبون كل ما لا يعرفون مسببه إلى العشوائية والصدفة).
يقول آدم ريس أن أحدث القياسات تظهر أن الطاقة المظلمة أطلقت بالفعل هذا التسارع قبل خمسة مليارات سنة، وأصبحت القوة المهيمنة على الكون منذ ذلك الوقت وإلى حدود الساعة.
لحل لغز الطاقة المظلمة، يقول آدم ريس أن العلماء سيحتاجون إلى أكثر من مجرد قياسات، فقد حاول نخبة علماء الفيزياء النظرية في العالم، مثل آينشتاين وستيفن هوكينغ، وضع نظرية موحدة كبرى للفيزياء تشرح بشكل كامل جميع جوانب الكون. لكن إلى حدود الساعة، يقف عدم ترابط الجاذبية وفيزياء الكم حائطاً كبيراً أمام هذه النظرية الموحدة، التي تُعتبر المفتاح الذهبي لتفسير الطاقة المظلمة.
في الختام، أودّ أن أقول أنه من الصعب جدًّا، بل ويكاد يكون من المستحيل، معرفة التكوين أو التركيب الحقيقي للكون. فبالإضافة للطاقة المظلمة، التي لا نعلم عنها الآن أي شيء سوى الافتراضات والنظريات، يمتلئ الفضاء بمادة هي الأخرى لا نعلم عنها أي شيء، وتُعرف باسم المادة المظلمة. وكلاهما يشكلان 96% من الكون. في حين أن المعرفة البشرية بهذا الكون الهائل لا تتعدى 4%، وحتى هذه ال 4% مشكوك فيها.