مقدمة
الكثير من الناس يتمنون لو وُلدوا بشكل أجمل من شكلهم الحالي، الطمع الزائد في الحصول على أقصى حد من الجمال جعل الكثير من الأشخاص يشتكون من مظهرهم الحالي رغم أن لهم نصيبٌ من الجمال. لكنهم رغم ذلك يتدافعون على عمليات التجميل ويدفعون الأموال الطائلة من أجل تصغير الأنف، أو رفع الحواجب، أو إزالة بضعة تجاعيد هنا وهناك، أو حتى إزالة خالة صغيرة تكاد لا تُرى للناس.
لكن لو قُدِّر لهؤلاء الناس الاطلاع على قصة جوزيف ميريك، أو كما يُعرف بالرجل الفيل، لحمدوا الله ليلاً ونهاراً على ما لديهم، ولن يفكروا نهائيًّا في إزالة أو إضافة أي شيء. بعد أن تقرأ هذه القصة بأكملها للنهاية، أنا متأكد بأن تفكيرك سيتغير 360 درجة. رغم أن القصة حزينة جدًّا، إلا أنها مليئة بالعبر والدروس القيمة التي سنحتاجها في حياتنا جميعاً.
ميلاد جوزيف
وُلد جوزيف ميريك بمدينة ليستر في بريطانيا سنة 1862. وُلد بتشوهات خلقية بدت بسيطة في حينها، وذلك على الرغم من أن والديه طبيعيان تماماً. عاش سنواته الأولى مع أمه وأبيه. عندما أصبح في عامه الثاني، لاحظت أمه تغيرات غريبة تحدث في جسده. لاحظت أنه بعض الكتل بدأت تنمو تحت الجلد عند منطقة الرقبة والصدر، وبشكل أكثر خلف رأسه. بدأت الأم حينها في الشعور بالقلق، فما يحدث مع جوزيف أمر غريب وغير مألوف.
مع مرور الزمن، أصبح شكله أكثر غرابة. الجهة اليمنى من رأسه وذراعه ويده بدأت تتضخم بشكل كبير حتى أصبح لا يستطيع تحريك ذراعه، وصارت دون فائدة. وبدأت الكتل على ظهره تنمو بشكل مخيف ومقزز. عندما وصل لسن الخامسة، أصبحت جبهته كبيرة ومنتفخة، وخرج من خلفية رأسه كتلتين ضخمتين. أما فكيه، فأصبحا هما أيضاً كبيرين ومشوهين، لدرجة أن نطقه أصبح صعباً وغير واضح.
شيئاً فشيئاً، أصبح شكل جوزيف يتغير لشكل أشبه بالفيل، فأصبح أضحوكة الحي. وكلما رآه زملائه، تجمعوا حوله للاستهزاء به والتنمر عليه. الشخص الوحيد الذي كان يحن عليه وتعامل معه بلطف، ويساعده على الصمود ومجابهة قساوة التنمر، هو أمه طبعاً.
عندما بلغ الحادية عشر من العمر، والدة جوزبف تُوفيت. الملجأ والسند الوحيد له في هذه الحياة قد ذهب، تاركاً إياه في عهدة أبٍ مدمن للخمور ولا يكترث لأمره نهائيًّا، وما زاد الطين بلة هو أن والده تزوج من زوجة ثانية. هذه الزوجة كانت قاسية جدًّا مع جوزيف، وطردته من المنزل وهو لا يزال ابن الثانية عشر، مما أجبره على محاولة البحث عن عمل في الشوارع. ولكن أينما حل، كانت السخرية والاستهزاء يلاحقانه. عاش جوزيف التشرد والجوع لخمس سنوات كاملة، بعدها في سن السابعة عشر وُضع في دار للفقراء، لكنه هرب منها بعد أن أصبحت الحياة هناك لا تُطاق.
سيرك المسوخ
عاد جوزيف مرة ثانية إلى حياة التشرد، إلى أن وجده شخص يُدعى بيل بيريز. عرض عليه هذا الرجل إنقاذه من التشرد والجوع وإيجاد وظيفة له تكسبه الشهرة والمال،كانت الوظيفة هي العمل في سيرك يُسمى بسيرك المسوخ.
هذا النوع من السيرك يقوم بعرض الأشخاص ذوي الأشكال الغريبة والتشوهات الخلقية، ليأتي الناس ويتفرجوا عليه ويتسلوا بهم. كان هذا النوع من السيرك مشهوراً للغاية ومنتشراً بشكل واسع في القرن التاسع عشر، حيث يتم اختطاف الأشخاص المشوهين وذوي البشرة السوداء وعرضهم على أنهم حيوانات أقل من البشر، وهذا هو نفس السيرك الذي سيُعرض فيه جوزيف على الناس.
وُضع جوزيف في قفص مغلق، واستُغل شكله الغريب والمشوه ليتم عرضه أمام الناس على أساس أنه نصف فيل ونصف بشر، وأطلقوا عليه اسم الرجل الفيل. جعل ذلك بيريز يجني ثروة طائلة من الزوار الذين أتو متلهفين خصيصاً لمشاهدة الرجل الفيل مباشرة وبأم أعينهم، بعد أن تم الترويج له في كامل بريطانيا. كانت حياة جوزيف مثل الجحيم وهو يرى نظرات الاستغراب والقرف في وجوه الناس كل يوم وكل ساعة. الانسان بطبيعته لا يرضى بكلمة أذته من وراء ظهره، فما بالك بهذا الرجل الذي يُعامل معاملة الحيوانات في كل دقيقة، ويُمسح بكرامته الأرض دون اعتبار للروح التي بداخله.
شائت الأقدار أن تقوم بريطانيا بإصدار قانون يمنع استغلال المعاقين في عروض السيرك، وانتهت بذلك جميع عروض سيرك المسوخ إلى مزبلة التاريخ. هنا هاد جوزيف مرة ثانية إلى حياة التشرد، لكن هذه المرة تصادف أخيراً مع رجل سيغير حياته إلى الأفضل.
طوق النجاة
التقى جوزيف بطبيب يُدعى فريدريك ترافيس، هذا الرجل عرض عليه المساعدة بدون أي مقابل. عرض عليه الدخول للمستشفى ليوفر له غرفته الخاصة والمأكل والمشرب، بدون حتى أن يقوم بأي شيء. وفعلاً تغيرت حياة جوزيف تدريجيًّا بعد دخوله لهذا المستشفى، وشيئاً فشيئاً بدأت الممرضات والأطباء يعتادون عليه ويحبونه.
اكتشفو أن هذا الإنسان الذي يظهر لهم من الخارج وكأنه وحش حقيقي، هو في الحقيقة سخص مُرهف المشاعر عاشق للكتب والشعر، ويمتلك حسًّا فنيًّا عالياً، وذو قدرة مبهرة على مناقشة مؤلفات معقدة مثل مؤلفات سكسبير التي لم يكن يفهمها سوى القلة من الطبقة الأرستقراطية آنذاك. كان جوزيف يستغل وقته أيضاً في صنع بيوت ومجسمات هندسية مصغرة غاية في الدقة والاتقان.
أخذت هذه الأخبار تنتشر بين الناس إلى أن بلغت مسامع الأميرة أليكسندرا ألمير 12، التي أمرت أن يُنقل إلى المستشفى الملكي حيث سيُحاط بالرعاية الملكية الكاملة. وبعد هذا الأمر الملكي، بدأت تتوافد علبه الزيارات من العائلات الانكليزية الراقية، والكل يطلب الجلوس معه وتبادل أطراف الحديث. أصبحت مقابلة السيد جوزيف من أمور الوجاهة، وبسبب هذا الاهتمام الذي مان محروماً منه منذ وفاة أمه، بدأ ولأول مرة يشعر بأنه إنسان حقيقي، وبأنه يُعامل كإنسان لديه مشاعر وكرامة كباقي البشر.
وفاة جوزيف
في كل ليلة، كان يتعين على جوزيف أن ينام مستلقيًّا جنبه. لأنه وبسبب حجم رأسه الكبير جدًّا، النوم على الظهر كان يمنعه من التنفس بصورة طبيعية. لكن في أحد الأيام، قرر جوزيف أن يجرب النوم على ظهره ليكون كالناس العاديين، كباقي البشر. لكنه لم يستقيظ بعد ذلك نهائيًّا، حدث ما كان الأطباء يحذرونه منه دائماً.
في 11 من شهر أبريل من سنة 1890، دخلت الممرضة لتجلب له طعام الفطور كعادتها كل صباح، لتجده ميِّتاً على فراشه. توفي جوزيف اختناقاً وهو ما يزال في سن السادسة والعشرين، دُفن بعدها في أحد مقابر لندن وتناسى الناس قصته مع الزمن.
بعد مرور نحو 130 سنة على وفاته وتحديداً في سنة 2019، عُثر على مكان دفنه الذي كان مجهولاً طول هذه السنين، أُخذ بعدها هيكله العظمي ليُعرض على الزوار في كلية الطب في لندن. وهذا في رأيي الخاص فعل آخر غير أخلاقي في حق هذا الرجل. رغم الادعاء بأن أخذ هيكله العظمي هو لسبب علمي، إلا أنه ينافي الأخلاق والمبادئ البشرية. وهذا من مساوئ الدولة التي لا تتبع أي دين، فالميت يجب أن يُحترم، ويُكرّم بإبقائه في مكان دفنه، وليس بعرضه على الناس كما كانوا يفعلون معه في السيرك. انعدام الأخلاق في المجتمعات القديمة لم يتغير منه أي شيء في أي من هذه الأمور، الذي تغير هو فقط الأعذار التي يجملون بها أفعالهم. فقديماً، كان يُعرض جوزيف في سيرك المسوخ لأنه كان أقل من البشر كما كانوا يؤمنون، والآن هو يُعرض على الزوار بدواعي علمية.